الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية بين القصرين وسيدي بوزيد: بعد وفاة الطفلة ندى الميساوي، المهازل الصحية والطبية تتواصل، فمن يضع حدّا لها؟

نشر في  10 مارس 2015  (15:10)

المعلوم للجميع في جلّ أنحاء العالم أنّ المؤسسات الصحية تهدف الى توفير التغطية الصحية والظروف الملائمة لعلاج المواطن إلا أنه وعلى طوال سنين تبيّن لنا في تونس أنّ الأمر يختلف وبدرجة كبيرة.

فبعد الفضائح التي هزت جلّ مستشفيات الجمهورية من رفض مداواة المرضى حتى وإن كانت حالاتهم مستعجلة بتعلة عدم انتفاعهم ببطاقة العلاج أو عدم توفر مصاريف العلاج بحوزتهم على عين المكان، مررنا إلى فقدان المعدات الصحية الأساسية في عدد هام من المستشفيات المتموقعة في المناطق الداخلية على غرار المستشفى الجهوي بالقصرين والذي يشكل أولوية مستعجلة خاصة في ظلّ العمليات الإرهابية المتتالية هناك والتي يروح ضحيتها عناصر من الجيش الوطني.

ففي كل عملية إرهابية يتم نقل المصابين من الجنود لمستشفى القصرين الا انّه في كل مرّة تعاد الكرّة ليعجز المستشفى عن اسعافهم ويكون المصاب مضطرّا إلى الانتظار إلى حين توفر وسائل تنقله لأقرب المستشفيات المجاورة والتي تبعد مئات الكيلومترات.

وفي نفس السياق لا يمكن أن نمرّ دون أن نذكر عجز المستشفى الجهوي بسيدي بوزيد عن إسعاف المصابين في العملية الإرهابية التي جدّت في منطقة سيدي علي بن عون والسبب نفسه عدم توفر الإمكانيات الازمة. في كل مرّة يتعرض الجنود إلى عمليتين إرهابيتين: الأولى من قبل المجموعات الإرهابية أما الثانية فهي من حكام الوطن الذي يحاربون من أجله.

وبالحديث عن مستشفى سيدي بوزيد، لا يمكن المرور دون التطرق إلى الحوادث في هذا المستشفى وخاصة القاتلة منها حيث نذكر وفاة ثلاثة حوامل على فراش الولادة وغيرها من المصائب عديدة. الغريب في الأمر أنه وبعد كل هذه "الكوارث" لم يتحرك ساكن السلط المعنية والمتعاقبة على المناصب...

مؤخرا وفي واقعة ليست بالأولى في تونس، أصيب أكثر من 500 شخص بفيروس الإلتهاب الكبدي صنف "أ" وصنف "ب" وذلك حسب إحصائيات "جمعية النهوض بالقطاع الصحي بغنوش". وبالرغم من أنّ الواقعة خلفت الكثير من المخاوف وسط متساكني ولاية قابس إلا أنّ الأمر لم يكن بنفس الأهميّة بالنسبة للمؤسسة الصحية التي أبدت شبه تجاهل للموضوع ولامبالاة إزاء خطورة تفشي هذا الفيروس حسب ما صرح به رئيس الجمعية المذكورة.

أيام قليلة بعد ما حدث في قابس، انتقل الموضوع إلى منطقة السعيدة "المسماة مؤخرا معتمدية" بولاية سيدي بوزيد حيث ظهرت عوارض تفشي نفس المرض "فيروس الالتهاب الكبدي" في صفوف تلاميذ مدرستي الطاهر الحداد والغابة السوداء، وكما هي العادة كانت الهياكل الصحية بالجهة هي الوحيدة التي لم تكن على علم بالموضوع مما استوجب تدخل الهلال الأحمر بالجهة الذي سعى جاهدا للإتصال بمدير مستشفى الرقاب والذي استجاب واجتمع بأعضاء الهلال الأحمر يوم 16 أكتوبر 2014.

لكن يبدو أنّ المدير لم يأخذ الموضوع على محمل الجدّ أو أنه لم يستوعب خطورة تفشي هذا المرض حيث وفي نهاية إجتماعه بالممثلين عن الهلال الأحمر تهاون بالموضوع وقال لهم حرفيا "أنتم لستم بمختصين ولا يمكنكم التوجه إلى المدارس والقيام بحملات توعوية لذلك سنتولى تمكينكم من دورة تكوينية يشرف عليها طبيب مختص ثم في ما بعد يمكنكم الإتجاه الى المدارس". لم يبد المدير أي رغبة في تحرك جدي وسريع من قبل المستشفى للحدّ من خطورة وتفشي هذا الفيروس، وراحت الوُعود في مهب الريح حتى أنه وفي إتصالات لاحقة به تجاهل الموضوع قائلا "ليست لدينا أي أرقام بوجود إصابات في المدرستين" مع العلم أنّ المستشفى لم يوفّر ولو إطارا طبيا واحد لمعاينة الوضع الصحي هناك.

مرّت الأيام والوضع على ماهو عليه لمدّة أشهر عديدة ليستفيق أهالي عمادة السعيدة آنذاك -والمعتمدية حاليا- يوم الثلاثاء 27 جانفي على خبر وفاة التلميذة ندى الميساوي البالغة من العمر خمس سنوات فقط وهي تلميذة في القسم التحضيري بالمدرسة الإبتدائية "الغابة السوداء " نتيجة إصابتها بالفيروس المنتشر صنف "أ".

نؤكد هنا على تهاون المؤسسة الصحية، فما غاب عن تصريحات المسؤولين وحتى رئيس الحكومة ووزير الصحة اللذين زارا منطقة السعيدة -في زيارة وصفت بالفجئية- هو موقفهم من هذه المهازل المتواصلة والإجراءات التي ستتخذ مع من أذنبوا في حق هذه التلميذة. فغريب أن نجد مديرة الصحة الأساسية بوزارة الصحة "رافلة تاج" تصرح في وسائل الإعلام بما يلي: "وصلت الهالكة إلى مستشفي صفاقس في حالة غيبوبة وقد بلغ مرضها مراحل جد متقدمة ". وتضيف أنّ الطفلة أصيبت منذ 15 عشر يوما والحال أنها مصابة منذ أشهر، ثم تؤكد أنّ المتوفاة لم تتوجه إلى المستشفى إلا في آخر لحظة والحقيقة أنها توجهت إلى مستشفى الرقاب حيث تم توجيهها إلى المستشفى الجهوي بسيدي بوزيد أين تم رفضها مرّة أخرى بتعلة عدم توفر الإمكانيات، لتتوجه لمستشفى صفاقس الذي امتنع أطباؤه عن فحصها بحجة عدم حيازتها لوثيقة من مستشفى سيدي بوزيد توجهها لهم.

نعم الفرق شاسع بين الواقع وتصريحات المسؤولين القابعين في مكاتب السلطة في حين يدرس تلاميذ المنطقة في فضاءات تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة، فهم يشربون الماء من "الماجل" الذي تجتمع فيه مياه الأمطار -يذكر أنّ بناءه يعود إلى سنوات السبعينات ولم يتم تنظيفه ولو لمرّة واحدة.

عندما تقول "تاج" إنّ أسباب تفشي هذا الفيروس بين التلاميذ ناجم أساسا عن عدم احترام قواعد الصحة والعناية بنظافة الجسم والمحيط، نستوقفها لنلاحظ لها أنّ المحيط ليس نظيف وحاله كارثي وندعوها لتلقي نظرة على محيط المدرسة الذي يعج بالفضلات والأوساخ -وهذا من خلال المعاينة الميدانية- وحتى دورة مياه المعلمين حالها لا يفيد أنّنا نعيش في ظلّ نظام دولة قائم الذات.

يعود كل هذا في نهاية الأمر إلى تهاون وزارة التربية التي رصدت عشرين ألف دينار لبناء دورة مياه فقط للمعلمين ليتسلم زمام الأمور أحد مقاولي البناء حيث شرع في الإنجاز لكن سرعان ما غادر دون أن يستكمل ماهو متفق عليه ودون أي متابعة من قبل مسؤولي الوزارة، هذا حسب ما أكدته إطارات هذه المدرسة الذين إعتبروا أنّ مبلغ عشرين ألف دينار يمكن أن يوفّر دورة مياه ويعيد إصلاح المدرسة بنسبة 90%...

بالعودة لتهاون المؤسسة الصحية بالجهة بالموضوع، فقد انتظرت إلى يوم 5 فيفري 2015 -أي بعد أكثر من أسبوعين عن وفاة التلميذة ندى الميساوي- لتكوين قافلة صحية تتوجه لمنطقة السعيدة لكن الأمرّ والأدهى هو أنّ شهود عيان واكبوا القافلة أكدوا أنّ القافلة كانت فقط حركة شكلية لامتصاص غضب أهالي الجهة حيث كان الأطباء مصحوبين بمطويات لا علاقة لها بالمرض المتفشي وأقاموا حملة توعوية حول مخاطر مرض السكري والسمنة والتدخين.

هذا وواصل مدير المستشفى تستره عن الموضوع حيث امتنع عن الكشف عن أي أرقام رسمية حول عدد الإصابات وخطورتها وتفادى التواصل مع الوسائل الإعلامية بالجهة بالرغم من أنّ الوضع يزداد ترديا يوما بعد يوم حتى أنّ التعتيم الإعلامي وصل حدّ حجب أي معلومة تخص المصابين بالمدرستين.

ومن بين هذه التضييقات يمكن أن نذكر مثال الصحفي بموقع "نواة" غسان بن خليفة الذي توّجه إلى المنطقة بغرض إجراء روبورتاج مصور إلا أنّه تعرض لصعوبات عديدة. وفي تصريحه لأخبار الجمهورية، أكد أنه تعرض لمضايقات حيث منعه مدير مدرسة الغابة السوداء من التصوير وطالبه برخصة من وزارة التربية وأضاف أنه تمكن بصعوبة من استجواب اطار تربوي خارج محيط المدرسة. ثم بإنتقاله للتصوير بمستوصف المنطقة، تفاجأ بوجود أبوابه مغلقة في وقت يفترض أن يكون مفتوحا. ويعتقد غسان شأنه شأن الكثيرين أنّ كل هذه المضايقات هي محاولة للملمة الموضوع والتعتيم عليه من قبل مسؤولي المنطقة، ويرجّح أن يكون هذا التعتيم بأوامر فوقية.

من معضلات الدولة التونسية عجزها عن التغطية الصحية وعدم قدرتها على توفير مؤسسة تربوية تتمتع ببيئة سليمة خاصة بعد تسارع النسق التنازلي، فمن يُعين على إيجاد حلّ لشفرات هذه المعضلة التي أصبحت مشتركة؟

علي عبيدي